قلم أحمر وتعليم عالٍ بلا درجات
إلى أستاذي الجامعي الذي كلما أقنعته بفكرة في رأسي وباركها،
شعرت أني حصلت على درجة أكاديمية عليا في مجالي :
شكراً على مبادئك ودقتك ، وقلمك الأحمر!
في السنة الجامعية الثانية في مرحلة دراسة متطلبات درجة البكالوريوس في جامعة السلطان قابوس وبينما كنت أدرس مقرراً يدعى ” التحرير الصحفي ” ، تفاجأت في إحدى المحاضرات أن أستاذ المقرر من إحدى الجنسيات العربية لم يدخل علينا كعادته في توقيت المحاضرة بل جاءنا محاضرعماني كنت أراه للمرة الأولى ، سلم ثم عرف بنفسه وقال :سأكون معكم اليوم بدلاً من المحاضرالأساسي بسبب تعرضه لوعكة صحية أرقدته في المستشفى لأيام ، ابتسمت في داخلي وقلت: يعنى جاي حصة احتياطي ؟ وتهيأت أن أقضي المحاضرة في الحديث إلى زميلاتي القريبات اللاتي تجمعنا المحاضرات ثم تذهب كل منا إلى سكنها الجامعي ، لكنها لم تكن أبدأ حصة احتياطي !
لم يحدثنا هذا الأستاذ عن الدرس الذي كنا ننتظره من أستاذنا العربي ، بل تحدث بأسلوب قريب جداً عن أهمية القراءة لمن يدرس في تخصص الصحافة ، سألنا عن نوعية ما نقرأه ووجه قراءاتنا نحو خيارات أغلبنا لم يعهدها ، كانت محاضرة فتحت عيناي على قيمة ما أدرسه ومسؤوليتي تجاه نفسي وتطويرها الذي ليس بالضرورة أن يكون أكاديمياً، كانت محاضرته حالمة بالنسبة للبعض لكنها لم تكن كذلك بالنسبة لي !
انتهت المحاضرة وذهب الأستاذ لمكتبه وربما نسى ما قاله لنا ، وذهبت أنا إلى المكتبة الرئيسية و بدأت أفكر في كل ما قال ، كنت حينها قارئة نهمة جداُ في مجال الروايات والتاريخ ، لكن خيارات القراءة التي وجهنا إليها كانت غائبة جداً عني، ربما لأنها كانت ثقيلة في وقتها وكئيبة وصفحات كتبها كثيرة.
مر الوقت وحديث ذلك الأستاذ عن تطوير وتأهيل القدرات لايغادرني ، فوجدتني أطرق باب الكتابة في الإصدارات التي تصدر من جامعة السلطان قابوس حينها ومنها ملحق أنوار ونشرة المسار ولجأت لهذا الأستاذ لكي يطلع على أول خبر صحفي كتبته ، واذكر أنه كان في يده قلم أحمر عندما قصدته في مكتبه صباحاً ، فقام بتعديل صياغة الخبر لدرجة لم أعد فيها أتبين الخبر الأصلي الذي كتبته ، وعندما لاحظ شعوري بالإحباط قال : إن كان كل ما تكتبينه سيكون رائعاً من المرة الأولى ، فكيف يمكن أن تتعلمي من أخطائك ؟ ومن يومها وأنا لا أطلب كمالاً فيما أفعله، وأواصل التعلم دون توقف .
راجع لي بعدها تحقيقات واستطلاعات وحوارات وكعادته كان دقيقاً جداً في عمله ، تلك الدقة التي نضيق ذرعاً بها في وقتها قبل أن ندرك أنها ستطورنا ، كان في كل مرة يقرأ لي شيئاً يعطي ملاحظات متعددة ، فمرة يقول : وحدي زمن الأفعال ، لا تأتي مرة بفعل ماضي وفي نفس الفقرة فعل مضارع ، ومرة لا تستطلعي آراء أقربائك في الاستطلاعات الصحفية التي تجرينها وابحثي عن أشخاص لا تربطك بهم قرابة ، ومرة تجردي من شخصيتك عندما تكتبين وغيرها الكثير من النصائح التي لصرامتها في كل مرة أخرج من مكتبه أقسم أن لا أعود ، لكني بعد كل مرة كنت أعود!
جاء يوم وأنا في السنة الثالثة في الجامعة وطلبت تدريباً في أحد المؤسسات الإعلامية ولم يكن مفروضاُ لطلاب السنة الثالثة لكني أبديت رغبتي في التدرب ، وتمت الموافقة لي على التدريب من الكلية وبدأت في الانتظام بالذهاب لجهة التدريب ولأني لم أكن أحصل على درجات على ذلك التدريب لكون المقرر غير معتمد في الخطة الدراسية ، فكان يحدث أن أذهب أحياناً لجهة التدريب وأتكاسل عن ذلك أحيان آخرى حتى استدعاني هذا الأستاذ في مكتبه وبعد عبارات عن إيمانه بأن لدي مهارات جيدة في مجالي، قال لي عبارة لم تعد تفارقني فكرتها : إن أبديتي رغبة في عمل شيء وتمت الموافقة لك على فعله ، فيجب أن تكمليه أو باختصار لا تتطوعي لفعله من البداية !
مر الزمن وتخرجت من الجامعة وذهبت لدراسة الماجستير في استراليا ، وعندما عدت ووجد اسمي في قائمة المقبولين لدراسة متطلبات الماجستيرفي الصحافة والنشر الالكتروني في جامعة السلطان قابوس سألني : لماذا ماجستير ثاني ؟ وكنت أشعر أني في امتحان آخر غير الامتحان والمقابلة اللذان خضعت لهما من قبل الكلية، والحمد لله أني اجتزته عندما أقتنع بوجهة نظري.
الدكتور عبدالله بن خميس الكندي الأستاذ المشارك في قسم الإعلام بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس نموذج للأستاذ الجامعي الذي يفتح في أذهان طلابه الأسئلة والرغبة في البحث للحصول على المعرفة ، فالدراسة الجامعية بالنسبة له ليست حضور محاضرات وتسليم متطلبات تؤدي إلى درجات معينة ، بل أن يساعد طلابه في التعلم واكتساب مهارات حياتية لا ينتهي أثرها بتسلم درجات المقرر الأكاديمي.
أستاذي العزيز : لكل المرات التي خرجت من مكتبك وكنت أشعر أنك لا تؤمن بقدراتي الصحفية لكثرة تعليقاتك على ما كتبت : شكراً على كل شيء ، بصدق جداً ، شكراً.